البحث عن الإبداع: هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي عبقرية بيتهوفن ولمسة فان جوخ؟

أنس عبود
أنس عبود
April 25, 2022

نقرأ كل يوم أخبارًا عن تقدم الذكاء الاصطناعي، والدور المؤثر الذي بات يلعبه في حياتنا، ولا يمكننا إنكار أثره المتزايد ونجاحه الباهر في قطاعات عديدة، على الرغم بأننا نعرّف النجاح من وجهات نظر مختلفة، ولكن مفهوم النجاح قد لا يكون شائكًا جدًا، في المقابل نرى مصطلحات ومفاهيم أكثر تعقيدًا: ما هي الحرية؟ ما هي العدالة؟ وهنا نسأل في موضوع مقالي هذا: ما هو الإبداع؟

إن سألتك عن تعريف الإبداع، وسألت قارئًا آخرًا، وسألت نفسي كطرف ثالث، سنجيب بشكل مختلف، فكل منا لديه فلسفته الخاصة، ينطبق ذلك على الجمال أيضًا فما هو جميل بالنسبة لي لا يكون حكمًا جميلاً بالنسبة لك. الأمر نسبي ببساطة.

من هنا ومن هذا المنطلق، هل من الممكن أن ننقل فكرة الإبداع للذكاء الاصطناعي، وبكلمات أخرى هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على أن يبدع من تلقاء نفسه؟

إبداع البشر عبر التاريخ

سأتناول في مقالي هذا الجانب الفني من إبداع البشر، فالفن حروف قليلة اجتمعت لتكوّن مصطلحًا يحمل في ثناياه أشياء كثيرة؛ صوّر لنا المعاناة، وقدم لنا الحب، وقصّ علينا قصص الحروب والتاريخ بأكمله، يسكن الإبداع في زواياه، وتحيطه المشاعر الإنسانية بدفء.

عندما تستمع اليوم إلى مقطوعة موسيقية ما، فإنك لا تستمع فقط لعلامات موسيقية صفها المؤلف بترتيب معين خالٍ من أي شعور، بل أنت تقرأ قصّة، وتعيش حياة أخرى.

في عام 1802 تحديدًا، ألّف بيتهوفن سوناتا سمّاها حينها "سوناتا كالخيال" عرفت فيما بعد ب "Moonlight"، تجلت عبقرية بيتهوفن في هذه المقطوعة بسبب تدهور قوة سمعه، وفقدانه التدريجي له ليصبح بعدها فاقدًا للسمع بشكل نهائي. اختصر بيتهوفن بهذه المقطوعة جميع المشاعر الإنسانية من الحب، إلى لخيبة، إلى لغضب، وروى من خلالها حياة كاملة حتى الموت.

woman playing piano
البحث عن الإبداع: هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي عبقرية بيتهوفن ولمسة فان جوخ؟ إبداع البشر عبر التاريخ

يبرز لدينا مثال آخر عن فنانين تركوا بصمتهم لحد يومنا هذا، وهو فان جوخ والذي يعتبر من أهم الفنانين عبر التاريخ، فخلف كل لوحة من لوحاته سنوات من التعب واليأس والعمل. تعبر لوحات جوخ عن المشاعر الإنسانية بطريقة فريدة، لن تتكرر أبدًا!

فإذًا، وبتحليل بسيط للمثالين السابقين، نستطيع حصر التحدي الذي يواجه الذكاء الاصطناعي، وهو القدرة على الإبداع وقدرة الدماغ البشري على خلق رابط بين المشاعر والمواقف، وترجمتها إلى فن يعبر عنها ويشرحها بطريقته الخاصّة.

Van Gogh Starry Night Google Art Project
البحث عن الإبداع: هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي عبقرية بيتهوفن ولمسة فان جوخ؟ -لوحة ليلة النجوم للفنان فان جوخ

هل يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على الإبداع؟

يمكننا من خلال النظر إلى بيتهوفن وموسيقاه، أن نرى الصعوبة أمام الذكاء الاصطناعي ليصل إلى ما وصل إليه مؤلفنا الموسيقي، وعلى الرغم من أن تقدم الذكاء الاصطناعي في هذا المجال ووجود عدة محاولات لاستخدام التعلّم العميق لبناء نماذج قادرة على تأليف مقطوعة موسيقية، إلا أن الحلقة الأهم مازالت مفقودة وهي الإلهام.

ما يقوم به الذكاء الاصطناعي هنا وباستخدام التعلم العميق -وتحديدًا أنظمة التوليد- هو التدرّب على عدد كبير من عينات البيانات، ومن ثم الوصول إلى ابتكار شيء ما، ويوجد حقيقة نماذج تقوم بذلك، وكأحد الأمثلة عليها نموذج تعلم عميق من IBM صمم عرضًا ترويجيًا لفيلم.

دُرب نموذج IBM على "مشاهدة" عدد من عروض الأفلام الترويجية، ومن خلال ذلك كوّن -رياضيًا- القدرة على إنشاء مقطع ترويجي لفيلم ما. إلى الآن، يمكننا القول بأنه نجح في ذلك، ولكنه لم يقم بذلك من تلقاء نفسه، بل بعد التعلم من أمثلة سابقة.

يوجد العديد من المحاولات الناجحة في هذا المجال، فإضافة إلى نموذج IBM والذي ذكرته قبل قليل، طور الخبراء نماذج ذكاء اصطناعي أيضًا قادرة على تأليف مقطوعات موسيقية، بعضها من خلال الاستماع إلى مقطوعات سابقة، وبعضها عن طريق تعليمها الأسس النظرية للموسيقا.

وهناك أدوات مبنية على الذكاء الاصطناعي، تعطيك مقطوعات موسيقية وكل ما عليك القيام به هو تحديد ما تريد من طول المقطوعة، ونمطها، والحالة التي تعبر عنها وستتكفل الأدوات بالباقي.

يبدو الحل للتحدي السابق واضحًا للوهلة الأولى، لكن المشكلة تكمن في الحل نفسه، فمن خلال تحديد بارامترات تعلّم خاصة بالإبداع، يستطيع نموذج التعلّم العميق أن يتدرب ويتعلم كيف يكون مبدعًا، وعلى سبيل المثال، يمكن استخدام عينات من صور تمثل لوحات فنيّة وبالتالي سيقوم النموذج بابتكار لوحة جديدة مما تعلمه من هذه العينات.

technological brain
البحث عن الإبداع: هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي عبقرية بيتهوفن ولمسة فان جوخ؟ هل يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على الإبداع؟

ولكن، ما هي بارامترات الإبداع؟ يعتمد تحديد تلك البارامترات على فهم الدماغ البشري فما زلنا ضمن حدود الحلقة المفقودة ولم نتجاوزها، فالفكرة هنا هي تمكين الذكاء الاصطناعي من تطوير إبداعه بنفسه دون أي مساعدة أو تعلم من نماذج سابقة ومحاولة تقليدها.

باتت الآن الصورة واضحة، فما يفتقر له الذكاء الاصطناعي حتى الآن هو قدرته على تعريف الإبداع بنفسه، وليس فقط التدرب على عينات، بل قدرته أيضًا على الحكم على ما هو جميل وما هو غير جميل، وكما ذكرت سابقًا جميع هذه المبادئ نسبية.

يمكن تلخيص المشكلة بعدة أسئلة: ما هي الطريقة التي تعلم بها الإنسان أن يكون مبدعًا؟ وكيف له أن يبتكر لوحات فنية أو مقطوعات موسيقية تعبر عنه وعن إبداعه؟ ولو وصلنا لإجابة -وأعتقد أن الأمر بالغ الصعوبة نوعًا ما- فهل من الممكن نقل هذه الآلية لنماذج الذكاء الاصطناعي لإعطائها هذه القدرة؟

تحدد إجابة الأسئلة السابقة الحل للوصول إلى ذكاء اصطناعي مبدع كالبشر، ولكنه ليس بهذه البساطة، أتحدث هنا عن المشاعر والإلهام وطريقة دماغنا في ربط الأشياء لإنتاج عمل إبداعي بشكل عام، وما وصل إليه الذكاء الاصطناعي هو فقط البداية.

مازالت رحلة البحث عن الإبداع في بدايتها، ومن الممكن مستقبلاً أن نشهد سوناتا عظيمة مثل Moonlight أو لوحة فنية إبداعية مثل Starry Night، ولكن من فنان غير تقلدي، من ذكاء اصطناعي، يخبرنا من خلالها قصّة معينة تثير مشاعرنا وتجعلها حاضرة إلى الآن في ذاكرة البشر الجمعية.

أنس عبود

مهندس برمجيات ، شغوف بالذكاء الاصطناعي وكل ما يتعلق به.

البحث عن الإبداع: هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي عبقرية بيتهوفن ولمسة فان جوخ؟

My story with Phi
Bioinformatics and ROS for Robot Arm Specialization Courses
| Phi Science
أنس عبود
25 أبريل 2022

نقرأ كل يوم أخبارًا عن تقدم الذكاء الاصطناعي، والدور المؤثر الذي بات يلعبه في حياتنا، ولا يمكننا إنكار أثره المتزايد ونجاحه الباهر في قطاعات عديدة، على الرغم بأننا نعرّف النجاح من وجهات نظر مختلفة، ولكن مفهوم النجاح قد لا يكون شائكًا جدًا، في المقابل نرى مصطلحات ومفاهيم أكثر تعقيدًا: ما هي الحرية؟ ما هي العدالة؟ وهنا نسأل في موضوع مقالي هذا: ما هو الإبداع؟

إن سألتك عن تعريف الإبداع، وسألت قارئًا آخرًا، وسألت نفسي كطرف ثالث، سنجيب بشكل مختلف، فكل منا لديه فلسفته الخاصة، ينطبق ذلك على الجمال أيضًا فما هو جميل بالنسبة لي لا يكون حكمًا جميلاً بالنسبة لك. الأمر نسبي ببساطة.

من هنا ومن هذا المنطلق، هل من الممكن أن ننقل فكرة الإبداع للذكاء الاصطناعي، وبكلمات أخرى هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على أن يبدع من تلقاء نفسه؟

إبداع البشر عبر التاريخ

سأتناول في مقالي هذا الجانب الفني من إبداع البشر، فالفن حروف قليلة اجتمعت لتكوّن مصطلحًا يحمل في ثناياه أشياء كثيرة؛ صوّر لنا المعاناة، وقدم لنا الحب، وقصّ علينا قصص الحروب والتاريخ بأكمله، يسكن الإبداع في زواياه، وتحيطه المشاعر الإنسانية بدفء.

عندما تستمع اليوم إلى مقطوعة موسيقية ما، فإنك لا تستمع فقط لعلامات موسيقية صفها المؤلف بترتيب معين خالٍ من أي شعور، بل أنت تقرأ قصّة، وتعيش حياة أخرى.

في عام 1802 تحديدًا، ألّف بيتهوفن سوناتا سمّاها حينها "سوناتا كالخيال" عرفت فيما بعد ب "Moonlight"، تجلت عبقرية بيتهوفن في هذه المقطوعة بسبب تدهور قوة سمعه، وفقدانه التدريجي له ليصبح بعدها فاقدًا للسمع بشكل نهائي. اختصر بيتهوفن بهذه المقطوعة جميع المشاعر الإنسانية من الحب، إلى لخيبة، إلى لغضب، وروى من خلالها حياة كاملة حتى الموت.

woman playing piano
البحث عن الإبداع: هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي عبقرية بيتهوفن ولمسة فان جوخ؟ إبداع البشر عبر التاريخ

يبرز لدينا مثال آخر عن فنانين تركوا بصمتهم لحد يومنا هذا، وهو فان جوخ والذي يعتبر من أهم الفنانين عبر التاريخ، فخلف كل لوحة من لوحاته سنوات من التعب واليأس والعمل. تعبر لوحات جوخ عن المشاعر الإنسانية بطريقة فريدة، لن تتكرر أبدًا!

فإذًا، وبتحليل بسيط للمثالين السابقين، نستطيع حصر التحدي الذي يواجه الذكاء الاصطناعي، وهو القدرة على الإبداع وقدرة الدماغ البشري على خلق رابط بين المشاعر والمواقف، وترجمتها إلى فن يعبر عنها ويشرحها بطريقته الخاصّة.

Van Gogh Starry Night Google Art Project
البحث عن الإبداع: هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي عبقرية بيتهوفن ولمسة فان جوخ؟ -لوحة ليلة النجوم للفنان فان جوخ

هل يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على الإبداع؟

يمكننا من خلال النظر إلى بيتهوفن وموسيقاه، أن نرى الصعوبة أمام الذكاء الاصطناعي ليصل إلى ما وصل إليه مؤلفنا الموسيقي، وعلى الرغم من أن تقدم الذكاء الاصطناعي في هذا المجال ووجود عدة محاولات لاستخدام التعلّم العميق لبناء نماذج قادرة على تأليف مقطوعة موسيقية، إلا أن الحلقة الأهم مازالت مفقودة وهي الإلهام.

ما يقوم به الذكاء الاصطناعي هنا وباستخدام التعلم العميق -وتحديدًا أنظمة التوليد- هو التدرّب على عدد كبير من عينات البيانات، ومن ثم الوصول إلى ابتكار شيء ما، ويوجد حقيقة نماذج تقوم بذلك، وكأحد الأمثلة عليها نموذج تعلم عميق من IBM صمم عرضًا ترويجيًا لفيلم.

دُرب نموذج IBM على "مشاهدة" عدد من عروض الأفلام الترويجية، ومن خلال ذلك كوّن -رياضيًا- القدرة على إنشاء مقطع ترويجي لفيلم ما. إلى الآن، يمكننا القول بأنه نجح في ذلك، ولكنه لم يقم بذلك من تلقاء نفسه، بل بعد التعلم من أمثلة سابقة.

يوجد العديد من المحاولات الناجحة في هذا المجال، فإضافة إلى نموذج IBM والذي ذكرته قبل قليل، طور الخبراء نماذج ذكاء اصطناعي أيضًا قادرة على تأليف مقطوعات موسيقية، بعضها من خلال الاستماع إلى مقطوعات سابقة، وبعضها عن طريق تعليمها الأسس النظرية للموسيقا.

وهناك أدوات مبنية على الذكاء الاصطناعي، تعطيك مقطوعات موسيقية وكل ما عليك القيام به هو تحديد ما تريد من طول المقطوعة، ونمطها، والحالة التي تعبر عنها وستتكفل الأدوات بالباقي.

يبدو الحل للتحدي السابق واضحًا للوهلة الأولى، لكن المشكلة تكمن في الحل نفسه، فمن خلال تحديد بارامترات تعلّم خاصة بالإبداع، يستطيع نموذج التعلّم العميق أن يتدرب ويتعلم كيف يكون مبدعًا، وعلى سبيل المثال، يمكن استخدام عينات من صور تمثل لوحات فنيّة وبالتالي سيقوم النموذج بابتكار لوحة جديدة مما تعلمه من هذه العينات.

technological brain
البحث عن الإبداع: هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي عبقرية بيتهوفن ولمسة فان جوخ؟ هل يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على الإبداع؟

ولكن، ما هي بارامترات الإبداع؟ يعتمد تحديد تلك البارامترات على فهم الدماغ البشري فما زلنا ضمن حدود الحلقة المفقودة ولم نتجاوزها، فالفكرة هنا هي تمكين الذكاء الاصطناعي من تطوير إبداعه بنفسه دون أي مساعدة أو تعلم من نماذج سابقة ومحاولة تقليدها.

باتت الآن الصورة واضحة، فما يفتقر له الذكاء الاصطناعي حتى الآن هو قدرته على تعريف الإبداع بنفسه، وليس فقط التدرب على عينات، بل قدرته أيضًا على الحكم على ما هو جميل وما هو غير جميل، وكما ذكرت سابقًا جميع هذه المبادئ نسبية.

يمكن تلخيص المشكلة بعدة أسئلة: ما هي الطريقة التي تعلم بها الإنسان أن يكون مبدعًا؟ وكيف له أن يبتكر لوحات فنية أو مقطوعات موسيقية تعبر عنه وعن إبداعه؟ ولو وصلنا لإجابة -وأعتقد أن الأمر بالغ الصعوبة نوعًا ما- فهل من الممكن نقل هذه الآلية لنماذج الذكاء الاصطناعي لإعطائها هذه القدرة؟

تحدد إجابة الأسئلة السابقة الحل للوصول إلى ذكاء اصطناعي مبدع كالبشر، ولكنه ليس بهذه البساطة، أتحدث هنا عن المشاعر والإلهام وطريقة دماغنا في ربط الأشياء لإنتاج عمل إبداعي بشكل عام، وما وصل إليه الذكاء الاصطناعي هو فقط البداية.

مازالت رحلة البحث عن الإبداع في بدايتها، ومن الممكن مستقبلاً أن نشهد سوناتا عظيمة مثل Moonlight أو لوحة فنية إبداعية مثل Starry Night، ولكن من فنان غير تقلدي، من ذكاء اصطناعي، يخبرنا من خلالها قصّة معينة تثير مشاعرنا وتجعلها حاضرة إلى الآن في ذاكرة البشر الجمعية.

Bana-img

أنس عبود

مهندس برمجيات ، شغوف بالذكاء الاصطناعي وكل ما يتعلق به.

المصادر